تقع مدينة الرصافة الأثرية على بعد حوالي 30 كم من جنوب غرب مدينة الرقة ونهر الفرات في سوريا. تعود الآثار الأولى لهذا الموقع الى القرن التاسع ق.م والذي كان قد أنشأ كمعسكر للجيش الآشوري. وجاء أول ذكر للرصافة في الحوليات الآشورية في عام 900 ق.م واتخذت كمنطلق للغزوات، وكنقطة عسكرية في البادية بهدف الحفاظ على الأمن والاستقرار بين القبائل المحيطة بها، وذكرت تحت اسم رسيف وتعني (الحجر البراق).
ثم استمر الموقع بنفس الوظيفة الدفاعية في الفترة الرومانية عندما سيطر الرومان على مناطق بلاد الشام، واتخذوا الرصافة كحصن ضد الفرس الساسانيين. ولهذا السبب اعتنى الرومان بأسوار المدينة التي كانت محصنة بشكل جيد، فلا يوجد فيها ثغرة واحدة.
ومع انتشار المسيحية، سرعان ما تحولت الرصافة الى مكان للحجاج المسيحيين، الذين عانوا من الاضطهاد، وفيها كانوا يحتفلون بالقديس “سيرجيوس”, وهو أحد الضباط الذين كانوا يخدمون في الجيش الروماني. وكان قد اعتنق المسيحية، ليموت فيما بعدها بسبب اضطهاد المسيحين من قبل الرومان. ولأجله تم بناء كنسية، وأصبح يطلق على المدينة اسم “سيرجيوبولس” أي مدينة القديس سيرجيوس. التي تحولت الى مركز جذب مسيحي وخاصة للعرب الغساسنة.
من أهم معالم المدينة والكتل المعمارية:
سور المدينة:
ويعتبر سور المدينة ذو الشكل الشبه منحرف من أهم المعالم أيضا التي تم الكشف عنها. وهو روماني التأسيس. يتألف من طابقين بارتفاع حوالي 13متر، وتبلغ سماكته حوالي 3 أمتار. يتخلله 54 برج دفاعي. وفي زواياه توجد أبراج دائرية، كي يتمكن الجنود من التنقل بسرعة، للدفاع عن الأماكن الضعيفة. ويحيط بالمدينة بشكل كامل. ويوجد فيه أربعة أبواب، يعتبر البابان الشمالي والجنوبي الأبواب الرئيسية للمدينة القديمة. وتتميز البوابة الشمالية بمداخلها الثلاثة، وبزخارف أعمدتها. اضافة الى التيجان المنقوشة بزخارف نباتية. بينما يزين الإفريز بنقوش حيوانية. وأمام هذا الباب فسحة طويلة، ويحيط بها برجان كبيران.
أما الباب الشرقي فيعتبر أيضا من الأبواب الهامة. يبلغ ارتفاع واجهته 12 م ويزين بالمحاريب والزخارف، وبنيت هذه الأبواب من الحجر الجبسي الناعم، الذي يعكس أشعة الشمس.
خزانات المياه:
تتواجد في الجنوب الغربي للمدينة، وخصصت لتخزين مياه الأمطار. طول الخزان الأكبر 57.50 م وعرضه 21.50 م، وسقفه قبو يستند في الوسط إلى أقواس تحملها دعامات. عندما يبلغ ارتفاع الماء داخل هذا الخزان 13 م، يبلغ محتواه من الماء حوالي 16000 م3. جمعت مياه الأمطار الشتوية بواسطة أحد السدود الواقعة في الوادي غرب سور المدينة، ووزعت مياهه عبر قنوات مغطاة في الحي الغربي من المدينة.
البازيليكا:
التي تعتبر من أهم البازيليكات القديمة في العالم، بركائزها التي لها شكلاً مصلباً، وهى مكونة من ثلاثة أبهاء، وحنية نصف دائرية. ومن الإضافات الجديدة فيها، الساقان الموجودتان على البهو الأوسط والبهوين الجانبيين. أما الركائز الأساسية لهذه الكنيسة ذات شكل مستطيل وتبلغ سماكتها 80 سم، ويصل طولها الى مترين تقريبا. أما طول الأقواس العرضانية يصل إلى عشرة أمتار. وقد أنشئت هذه الأقواس على صف واحد من الأحجار، فنتج عن ذلك قوس مزدوج بسبب طبيعة الأحجار الرملية المنشأ القابلة للتفتت، والتي لا يمكن أن يتشكل منها بلوكات كبيرة.
كما تحتوي البازيليكا على بناء في وسط بهوها الرئيسي، على شكل نصف دائري، وهو ما يطلق عليه اسم “البيما”. وهو عبارة عن بناء جهته الأمامية الشرقية مقوسه على شكل نصف دائرة، ومخصص لأداء الطقوس والشعائر الدينية أثناء إقامة القداس المقدس فيها.
كنائس الرصافة:
كنيسة القديس سيرجيوس:
تقع هذه الكنيسة على الجهة الشرقية من الشارع الرئيسي، وبشكل يقابل البوابة الشمالية. وتعتبر أهم وأكبر كنائس الرصافة. يعود انشاؤها الى القرن السادس الميلادي، ويعتقد أنها بنيت على مراحل بين القرنين الخامس والسادس.
تتألف الكنيسة من بهو واسع، يوجد على طرفيه بهوان آخران مزينان بالأعمدة والأقواس. وتمتاز الأعمدة بتيجانها الكورنيثية البديعة، وزخرفة حنية الكنيسة المتجهة إلى الشرق بالرسوم الجميلة. وقد كشفت البعثة الألمانية التي تعمل في الرقة، عن أجزاء من كنيسة صغيرة ملاصقة إلى الجنوب من كنيسة القديس سرجيوس. ولايزال يبدو فيها دهان الحنية الرئيسية للكنيسة، وهي عبارة عن حجر مرمري مكسر يعود تاريخ الكتابة فيها إلى العام 559م، وتُبيّن أن الكنيسة مكرسة باسم الصليب المقدس، وهذا نصها: ” أبراميسوس يرحمه الله أسقف سرجيوس بنى هذه الكنيسة لتكريم الصليب المقدس وذلك ليستحق من الله الرحمة وكان ذلك في شهر أرتيميسيوس من الدورة المالية السابعة من عام 870 الموافق شهر أيار عام 559م”.
كنيسة الشهادة:
تعتبر كنيسة صغيرة نسبيا، لكنها متميزة في بنائها، وخاصة في أعمدتها مع التيجان. الى جانب النقوش التي تزينها، وخاصة في الحنية الموجودة شمال الحنية الرئيسية. وتشكل خطوطها الستة من أجمل زخارف الكنائس في الشمال السوري، والتي تتشابه الى حد ما مع نقوش كنيسة قلب لوزة في منطقة المدن المنسية في مدينة ادلب السورية. تحتوي هذه الزخارف على أشكال عناقيد العنب وأوراق الكرمة. وسميت بالزوراء لازدراء ميل المدخل في الواجهة الغربية عن الاتجاه العمودي.
الكنيسة الكبيرة:
بقيت أطلالها محفوظة في الناحية الجنوبية الشرقية من المدينة وتتألف من ثلاثة معازب تتوجه شرقاً وغرباً لسائر كنائس الرصافة وكان القسم الوسطي من الكنيسة ينور بنوافذ تعدادها ثماني عشرة نافذة في كل جانب وعند أطرافها أعمدة رشيقة محمولة على مساند.
وفي الفترة البيزنطية، استولت قبيلة الغساسنة العربية على المدينة. وقام الأمير المنذر بن الحارث الغساني في القرن السادس الميلادي بجعل مقره خارج الأسوار وبنى قصره الغساني بالقرب من مدينة الرصافة، إلى الشمال الشرقي من بوابة المدينة الشمالية، وأبعاده 20 × 17م. وكان القصر مقراً لاجتماع القبائل. ويعتقد أن رفاة القديس “سرجيوس” قد دفنت فيه، ونقلت فيما بعد إلى كنيسة الشهادة ثم إلى حيث تقوم كاتدرائية سرجيوس حالياً. ويقال إن المنذر الغساني قد دفن في هذا القصر.
وفي صدر الحنية الرئيسية، توجد كتابة بالأحرف اليونانية وتمنيات النصر تخليدا لذكرى انتصارات المنذر على اللخميين. وفي مرحلة لاحقة، هاجم الفرس المدينة بقيادة كسرى الثاني الذي استطاع دخولها ونهبها. وبقيت مهدمة حتى حل العهد الاسلامي.
ومع انتشار الاسلام في المنطقة، وسيطرة الأمويين على حكم بلاد الشام في القرن الثامن الميلادية. اتخذ الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك من مدينة الرصافة مقرا له. وتعتبر هذه الفترة هي العصر الذهبي الذي عاشته مدينة الرصافة، والتي أطلق عليها اسم “رصافة هشام” وأصبحت المدينة جنة خضراء.
أهم ما خلفه المسلمون في هذا الموقع:
كان الخليفة الأموي هشام قد بنى قصرين خارج أسوارها من جهة الجنوب والجنوب الشرقي. اضافة الى العديد من الأبنية ذات الوظيفة السكنية. و أنشأ أيضا مسجدا بالقرب من كنيسة القديس سيرجيوس, والذي يشابه الى حدا ما المسجد الأموي في دمشق. فقد كان يحتوي على قاعة للصلاة مقسمة الى ثلاثة أجنحة، ومسقوفة بالسقف الجملوني. اضافة الى صحن المسجد والمحراب الذي لا يزال قائما الى يومنا هذا.
حين دخلها العباسيون عام 750م بعد أن هزم عبد الله بن علي العباسي آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد دمَّر المدينة وقتل سكانها وقضى عليها وهُدم قبر هشام، وفي نهاية القرن 8م قضى على ما تبقى منها زلزال رهيب.
وحينما اقترب المغول منها أمر السلطان بيبرس عام 1277م بإجلاء سكانها إلى السلمية وحماه خوفاً عليهم، ولكن المغول أبادوها خلال هجماتهم عليها في القرنين 13 و14 م , وبعد ذلك هُجرت الرصافة وتضاءلت أهميتها وصارت تجارتها تحت حماية البدو المحيطون بها, ولكنها استمرت كمحطة للقوافل العابرة واقتصر نشاطها بعد ذلك على تصنع البضائع الصوفية.