بقلم: ياسر شوحان
مما لا شك فيه أن السلطة كانت محط صراع الكثير من فئات المجتمع بالشكل العام مما يستدعي حراكاً مجتمعياً، إلا أننا نستطيع أن نطلق على السلطة في بلاد الرافدين بشكل شبيه بالديمقراطية البدائية والتي هي أقرب ما تكون لحكومة مشكلة من مجموعة من الرجال الأحرار. وفي الواقع فإن الحكم الفعلي هو لمجلس الشيوخ والذي كان أقدر على التعامل مع المجتمع وحاجاته بشكل أكبر، وما إن تمر البلاد بأزمة حتى يبادروا لاختيار شخص محدد ليحكم لفترة محدودة، وهو عادة ما يتم اختيار شخص ديكتاتورياً قادراً على التعامل مع الأزمة وحلها، بالإضافة لما يواجه البلاد من غزو الدول المجاورة، لكن وما أن تنتهي الأزمة حتى يعود هذا الشخص من حالة السلطة والحكم إلى منزلة المواطن البسيط كأي فرد من أفراد المجتمع. ويؤيد ذلك البروفيسور فرانكفورت في كتابه The Intellectual Adventure Of Ancient Man بقوله: أنه ربما دُعمت وجهة النظر هذه بحقيقة وجود كلمة سومرية لهذا الشخص يدعى لوجال Lugal ويعني “الرجل العظيم” والإشارة المسمارية لكلمة لوجال مرادفة للكلمة الأكادية شارّو والتي تشير إلى الرجل الذي يضع شيئاً على رأسه، ومن المحتمل أنه التاج الذي جعل منه رجلاً عظيماً.
وفي نصوص ملحمة الخلق نجد أن الآلهة عندما كانت مهددة بثورة العالم السفلي بقيادة الآلهة تيامات (الآلهة الأساسية وهي تجسد الماء المالح وأم الآلهة) قاموا باختيار أحد الآلهة الأصغر من بينهم وهو مردوخ للتعامل مع هذه الثورة فقاموا بمنح السلطة المطلقة له للتصرف، ويبدو هنا أن هذه الأسطورة تشكل انعكاساً لعملية اختيار الملك. وفي نصوص أخرى من ملحمة جلجامش نجد أنه يمثل ـ جلجامش ـ الممارس المُستبد على مدينته بحكم أنه ملك أوروك والذي تُظهر الأسطورة أنه ممثلاً ومختاراً من مجلس الشيوخ والأشخاص الأكبر سناً، وعلى الرغم من الإشارات التي وضعها البروفيسور فرانكفورت حول أن مصدر السلطة كان عن طريق انتخاب المجلس له فإننا نجد في بداية الألف الثاني قبل الميلاد أن حمورابي يعلن أنه أصبح ملكاً مُعترفاً به باعتراف الإله آنو (إله السماء) والإله بل، وبشكل عام فإن الملوك الآشوريين يصفون أنفسهم في ألقابهم ونقوشهم مُقربين من الإله “نينيب” ويُظهرون أنفسهم كأشخاص مختارين للملوكية من قبل الإله. وبهذه الحالة فمن المحتمل تفسير الصيغة القديمة “الملكية نزلت من السماء” كدلالة على الاعتقاد القديم أن الملكية كانت هدية الآلهة.
ويذكر الدكتور زهير صاحب في مقالته “سلطة القصر والمعبد في عهد حمورابي 1792 ـ 1750 قبل الميلاد” أن العصر البابلي القديم شهد ظاهرة تعاظم سلطة الملك وانفصال السلطات التشريعية والتنفيذية المتمثلة بالملك عن السلطة الدينية المتمثلة بالمعبد وطبقة الكهنة. فرغم احتفاظ الملك بصفته الدينية بوصفه ممثلاً للآلهة في حكم البشر، فإنه صار سيداً مطلقاً على جميع أرجاء مملكته. وبلغت هذه الخاصية في نظام الحكم أوجها إبّان حكم الملك حمورابي، إذ تم نقل جميع السلطات من هيمنة المعبد إلى القصر، فأصبح صنف القضاة وشؤون المحاكم وطبيعة الحياة في معظم تفاصيلها (علمانية) النزعة.