مدينة “دورا أروبوس” خمسة قرون من التعايش بين الحضارات

تقع مدينة “دورا أروبوس” الأثرية في موقع جغرافي هام، حيث كان يتحكم بالتجارة النهرية على “الفرات” و يقسم البلاد الواقعة بين “الخليج العربي” و”البحر الأبيض المتوسط” .

كان هذا الموقع الأثري الموجود على “تل صالحية الفرات” مجهولاً، حتى تم اكتشافه في عام “1920” و تولت التنقيب في الموقع بعثة أثرية “فرنسية” بين عامي “1922 -1923” وبعد توقفها استأنفت العمل بعثة مشتركة “فرنسية – أمريكية” بين عامي “1928-1936”.

مدينة دورا أروبوس


يتألف اسم “دورا أروبوس” من كلمة محلية “دور” وهي كلمة دارجة في اللغات “الأكادية والبابلية” وتعني “الموطن أو الحصن ” أما الكلمة الثانية فهي يونانية الأصل ومنها اشتق اسم “أوروبا” أميرة “صور” التي سميت القارة الأوروبية باسمها.

تقع مدينة دورا أروبوس على بعد “85” كم إلى الجنوب الشرقي من “دير الزور” و”35″ كم عن “الخابور”، على رأس صخري يتطاول ليشرف على نهر “الفرات” فيجمع بين البادية والنهر بوحدة متلاحمة لا انفصام لها، وتنحدر الأرض التي تقوم عليها “دورا أروبوس” بانكسار شديد نحو “وادي الفرات” من جهتها الشرقية والشمالية والجنوبية، الأمر الذي أكسب المدينة مناعة طبيعية ضد الغزاة، لذلك اكتُفيَ ببناء سور عال على طول تلك الجهات، أما الجهة الغربية التي تطل على البادية الواسعة الأرجاء، فقد حصنت بالأسوار والأبراج والخنادق.

مدينة دورا أروبوس الموسوعة السورية السياحية

تأسست في العصر “الهلنستي” زمن “سلوقس الأول” وفي نهاية القرن الرابع قبل الميلاد قام أحد قواده المدعو” نيكاتور” ببناء حصن في هذا المكان الذي وجده مناسباً لإقامة قلعة مهيبة ترهب الأعداء، أي أن المدينة تأسست لأغراض عسكرية استراتيجية، ثم اكتسبت أهمية تجارية بمرور الزمن، ويتجلى ذلك في القلعة الضخمة المطلة على “نهر الفرات” والتي يفصلها واد عميق عن بقية أجزاء المدينة، كما يبدو من السور الخارجي وتحصيناته المتينة، والذي دعّم بسور داخلي، ويتلاقى السوران عند الأبراج المربعة الشكل، ثم توسعت المدينة وزادت مساحتها حتى أصبحت “72هكتاراً”.
كانت المدينة مسرحاً للصراع بين “السلوقيين” و”الفرس”، ثم بين “الرومان” و”البارثيين” ثم “الرومان” و”الساسانين”، وبقيت “دورا أروبوس” خاضعة لـ”السلوقيين” منذ إنشائها حوالي “300 ق.م” إلى أن وصل نفوذ “الفرس” بزعامة “الفرثيين” حتى “الفرات” مستغلين ضعف الدولة “السلوقية”، ثم شهدت المدينة طاعة “الرومان” سلمياً بعد أن تنازل عنها “الفرس” وذلك خلال الصراع بين “الروم والفرس” على منطقة “الفرات”، وقد عهد “الرومان” إلى “تدمر” بحماية البادية وتوطيد الأمن على ضفاف “الفرات”، ومنذ ذلك العصر ارتبط مصير “دورا أروبوس” بمصير “تدمر” التي ازدهرت بازدهارها، وتحولت إلى ميناء لـ”تدمر” على “الفرات”، ووصل بين المدينتين طريق معبدة عبر الصحراء.

بنيت المدينة على هيئة رقعة شطرنج أي وفق المخطط “الهلنستي”، حيث تتقاطع فيها الشوارع الشمالية – الجنوبية مع الشوارع الشرقية – الغربية، وقوام محاورها شارع رئيسي «شمالي – جنوبي» بطول “650 م” يتعامد مع شارع «شرقي – غربي» بطول “373 م” وتقطع هذه الشوارع الأربعة، شوارع جانبية ضيقة محدثة جزراً للمساكن والمعابد والحمامات وغيرها، كما تحاط المدينة بسور مخمس على شكل منشار، كان أكثر سمكاً عند القاعدة منه في الأعلى، وقد دعم السور الخارجي بسور داخلي، حيث يتلاقى السوران عند الأبراج المربعة، وقد كانت المعابد في البداية على النمط “الإغريقي” مطوقة بأروقة محمولة على أعمدة، ثم استبدلت بالمعابد ذات الفناء، والمبنية على النمط الشرقي.

هذه مدينة الأثرية محصنة بأسوار منيعة مزودة بستة وعشرين برجاً وأربع بوابات أهمها بوابة تدمر إضافة إلى القلعة وعدد من القصور (قصر القلعة، قصر الحاكم، قصر حاكم النهر) وهي ذات تخطيط شطرنجي تقسمها الشوارع إلى عدد من الجزر السكنية المنتظمة وتحتوي على الساحة المركزية “الآجورا”  وعدد من الحمامات الرومانية وما يفوق ستة عشر مبنى دينياً مثلت مذاهب وديانات مختلفة منها الوثنية ومنها التوحيدية وأهمها الميثاريوم ومعبد بل وأرتميس وأثارغاتس, أرتميس نانايا, زيوس كريوس، والبيت المسيحي الأقدم في العالم والكنيس المحلي، وقد زُين معظمها بالرسوم الجدارية والتي أهّلت المدينة لنيل لقبب ومباي الصحراء، كما عثر على الكثير من التماثيل والمنحوتات التي تبرز طبيعة الفن الخاص بدورا أروبوس والتي تأثرت بثقافة الشعوب التي عاشت فيها، كتمثال الإلهة أفروديت فوق درع السلحفاة، ومنحوتة الإله آرشو ومشهد الإله ِبلْ وكثير غيرها، أُنجزت جميعها باستخدام حجر الجبس، كما عُثر على العديد من المخطوطات الرقية والنقود، وأشلاء من ورق البردي والنقوش الكتابية.
لقد عاشت المدينة قرابة خمسة قرون عرفت خلالها التعايش بين الحضارات المختلفة الشرقية والغربية وامتزجت فيها مختلف أشكال الفنون.

الآثاري أو (TheArchaeologist.news) عبارة عن منصة رقمية غير ربحية على الإنترنت مخصصة لأخبار التراث، الثقافة، الفن والآثار. تهدف إلى جمع علماء الآثار حول العالم المهتمين بالتراث الثقافي والمواقع الأثرية في الشرق الأوسط. تهدف منصتنا لخلق روابط بين المبادرات المحلية والنشطاء الذين يعملون على حماية التراث الثقافي في المنطقة والأشخاص في المجالات ذات الصلة بعلم الآثار.

شاهد أيضاً

بولندا تكتشف سرداب خشبي قديم أسفل المدينة

أعلنت مدينة ياروسلاف، وهي بلدة تقع فى جنوب شرق بولندا، والتي كانت مركزا تجاريا مهما في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عن اكتشاف سرداب طريق خشبي قديم (أحد أطول الطرق فى بولندا) في وسط المدينة.