ذاكرة المكان بريشة فنان سوري

بقلم: فتاة جديد- امينة متحف الفن الحديث بدمشق

شغل المكان الإنسان منذ وجد على هذه الأرض، وخلال سعيه لفكّ طلاسم الكون تساءل:أين سر الخلود، أو راح يتساءل “هل هناك عالم ما وراء الطبيعة ؟” ، وأين الأمان والسلام لينجو من الوحوش المفترسة كالديناصورات؟

وكانت الفنون هي الجواب الشافي وليس الوافي لتعبّر جدران المغاور عن هواجسه وقلقه الوجودي هذا..ثم جاءت المنقوشات الحجرية والمنحوتات الصلصالية والخشبية، فالصناعات الفخارية والبرونزية والسيراميكية والمسكوكات، وكانت بلاد الشام (ما بين النهرين وشرق المتوسط )عرابة  تلك الفنون وسواها  …ألا تزال ترفد الحضارة الإنسانية بتلك الذخائر التي تعطي معنى للوجود ، ألا ينفي غيابها استمرارية البشرية وتراثها ؟؟

الفنان فاتح المدرس

نجوم وأضواء فنية

لعبت الحيوانات الدور الأبرز في تحديد الوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه عشرات الأعمال الفنية على غرار النقوش التي تزين المعابد والقصور الآشورية خلال رحلات صيد (آشوربنيبعل )وصولاً إلى لوحات ملحمة جلجامش، ورقم اوغاريت الصلصالية. وراحت فنون بلاد  الشام وما أكثرهاكالكلدانية والفينيقية على سبيل المثال :وهي محطات من الحضارات  السومرية والأكادية (الألفيتين الرابعة والثالثة )حتى البابلية في القرنين (الثامن عشر والسادس عشر ق .م )تتقاطع مع الحضارة الآشورية السورية (القرنين الثاني عشر والسابع ق.م)واخترع السومريون والأوغاريتيون الكتابة، وهي صور صوتية رموزها الأبجدية,وشيدوا أبراجاً طابقيه زينوها بالنقوش البارزة  التي تصور يومياتهم وشخصية فنانيهم، وطبقت شهرة المنحوتات الآشورية الآفاق الحجرية وسواها البارزة النافرة والمسطحة تمثل حيوانات فوق أوانيهم المنزلية وجرارهم وسيوفهم ودروعهم حتى أرضيات قصورهم وجدرانها. اهتمت بإظهار طيور كالحجل والهدهد والثيران والنمور والأسود والفراشات والطواويس والثعابين والبوم، وتابعت الفنون الإسلامية المسيرة في بلاد الأندلس على سبيل المثال مع شهرتها في النقش على النحاس والزجاج والخشب لصور شحارير وحساسين وبلابل وصقور (في قصر الحمراء في غرناطة). وكان للطبيعة الغناء هناك مكانة الصدارة حتى لا تكاد تخلو التيجان والملابس من مطرزاتها، ومن سجاجيد تمثل أشجارها وأزهارها وصولاً إلى موتيفات الأبواب الخشبية والستائر المدججة بالزخارف من أغصان متدلية بدلال إلى أوراق الغار والزيتون الغناجة، واستخدمت تقنيات خاصة بتلك العصور في طليطلة والقيروان وأشبيليا وغرناطة، كذلك الأمر بالنسبة للصناعات البرونزية والسيراميكية والنسيجية الأخرى.

الفنان محمود حماد – قرية في الشمس – معلولا

البيئة عشيقة التشكيل

لم يقتصر المكان على اسم مجرد أو مرتبط بتضاريس محددة ومعروفة فقط وإنما شمل المكان كذلك البيئة الرعوية الريفية والبدوية وحيواناتها وطبيعتها الصحراوية والحرجية الجبلية والبحرية والنهرية، وارتمت في أحضان فنانين من كل حدب وصوب. شغفت بالأمكنة مدارس فنية عدة، من واقعية إلى انطباعية ورومانسية ووحشية، وتحولت المكانة إلى مرادف للمكان تمنحه هيبة ورهبة وقدسية احتلت مخيلة الإنسان الفنان لتجمع معلولا السورية على سبيل المثال بين تلك المترادفات، وهي نجمة الجبال السورية الحسناء عشقها فنانو بلاد الشام دون استثناء منذ العصور الحجرية القديمة والوسطى والحديثة، وكانت سوريا تعجّ بالتشكيليين الأوائل، ألم ينحت  هؤلاء مصاطب القلمون بلوحاتها الساحرة؟ ألم تصخب مغاورها وقد نحتتها الطبيعة داخل تلك الجبال ولقبها السلوقيون سلوقية الشام (سكوبولوسا) بأعمال فنية بدائية ذات دلالات تعبيرية ناطقة باسم تلك المراحل التاريخية؟ ألم تزدحم جدران تلك المغاور برسومات تمثل ينابيع تلك البيئة الجبلية الرائعة الجمال حين سكن الإنسان تلك البقاع كالمعاللة (نسبة إلى معلولا وهي كنية آرامية الجذور وتعني الممر)؟ وجدوا في الفج ضالتهم فهو الذي يستطيع حمايتهم من العدوان الخارجي كما تدل نقوش النواويس الحجرية التي عثر عليها في تلك المغاور، وكانت معلولا تابعة لمملكة دمشق الآرامية بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر قبل الميلاد، وعندما سقطت بيد الآشوريين عام 734 قبل الميلاد انتشرت تلك اللغة بثقافتها وحضارتها في بلاد الرافدين وفارس، وسرعان ما تداخلت فنون تلك البلاد ذات الموقع الجغرافي والتضاريس المتشابهة فيما بينها والدليل على ذلك الرسومات التي عثرت عليها البعثات الأثرية في تلك البقاع وبخاصة الأواني الفخارية والمعدنية من نحاسية  إلى برونزية وفي حفنة من المخطوطات السريانية (وهي لغة تنحدر عن الآرامية القديمة) زخارف ملونة رسمت باليد فوق تلك المؤلفات فكرية ثقافية ذات شأن. وكانت نقوش معبد الشمس وتعود للعصور الهلنستية في تلك الحاضرة تترجم هذا التواصل بين ضفتي المتوسط.

الفنان ميشيل كرشه (صيدنايا)

ألا يطل تمثال كل من الإله هيليوس (إله الشمس باللغة اليونانية) والألهة أثينا الواقعين شرقي معلولا على أجمل الوديان والسهول السورية؟ ألا تتحدث تلك المنحوتات وسواها عن حوار شامي يوناني قديم وحديث؟ ورغم أن أسماء صناع تلك المنحوتات مجهولة إلى اليوم إلا أن المكان يكفي لإعطاء تلك الكنوز هويتها التاريخية، وموقع معلولا يثير المخاوف في النفوس خوفاً  من أسراره وخوفاً من المشاعر المتضاربة التي تهز الفنان الذي يزور هذا المكان، وتشكل تضاريس معلولا وبيئتها الجبلية الصخرية عشرات المشاهد رسمتها يد الطبيعة المهيبة تنتظر فناناً ليلتقط لها صورة تذكارية بعد أن تغلغلت إلى خلجات قلبه وعقل أي زائر لهذا المكان، فكيف إذا كانت تلك البيئة مسقط رأس هذا الفنان أو مرابع طفولته أو ملتقى حبه الأول. ألم يشكل المكان هنا في القلمون الأعلى وهناك وراء تلك البقعة الجميلة شخصية ثانية لعشرات التشكيليين العالميين؟ ألا يصنع المكان العالم؟ ألا ترسم أضواء ذاك المكان وظلاله نهاره وعتمته اعترافات إنسان ينتمي لتلك البيئة وذاك المجتمع المرتبط بالموقع المذكور؟ وهاهوالمعلولي اليوم كما كان الأمس يروي مشهدية المكان والزمان بالحوّارة (الجير الأبيض والأزرق) فوق جدران بيته الخارجية. وبيوت معلولا تكاد تكون مكعبة الشكل الهندسي، هكذا أرادها المعماريون السوريون في القلمون الأعلى.

الفنان نشأة الزعبي

حوار أزلي

ولأن الواقع شيخ الفنانين كانت الطبيعة عرابتهم ، طبيعة الحلم الذي أصبح حقيقة يتحاور معها الإنسان الباحث عن معنى الحياة لترسم ريشة عدد من التشكيليين السوريين أبناء تلك البقاع الساحرة لوحات وجدانية تأثر أصحابها بذاك الفج أو ذاك النبع أو تلك الصخور الجرداء. فها هي لوحات الفنان سمير سلمون منتصف السبعينات من القرن الماضي تتوقف عند منازل بلدته معلولا وكنائسها. ويزيد عدد المواقع الدينية المسيحية فيها على الأربعين كنيسة شيدت بين القرنين الرابع للميلاد والسابع عشر منه، خلال تلك الأعوام كانت معلولا مركزاً لأسقفية ناشطة فازدهرت بين جنباتها معاصر الدبس الذي وصلت جراره إلى روما، وقد تناولته ريشة عدد من الفنانين السوريين كذلك على غرار ميلاد الشايب ونقولا بركيل , وهما من مواليد معلولا ليس فقط منازل تلك الحاضرة الشامية ذات التاريخ المجيد والدور المحوري الكبير أيام الهلينيستية بشكل خاص وإنما كذلك معابدها (كمعبد جوبيتر) ومعاصر نبيذها ونصبها التذكارية وحمامتها كالحمام الإمبراطوري ومقاماتها (مقام القديسة بربارة) وطواحين قمحها التي تدار بالماء وآلية تقطير دبسها المصنوع يدوياً، وكيفية جرش نسوتها للذرة (لصناعة الخبز) وجز أصواف غنمها وتربية خيولها، ومعبد الشمس الذي استقطب اهتمام كل فنان زار معلولا، انتقلت عبادة هذا الإله (الشمس) من بلاد الشام إلى بلاد الإغريق ويضع هذا الإله إكليلاً من الغار فوق رأسه ويرتدي عباءة يونانية في حين تعتمر أثينا خوذتها وهي ألهة الحكمة وراعية الحرب والسلم تحمي المدن كما تقول الأساطير، ولابد من ذكر أسماء حفنة من الفنانين السوريين الذين حملت لوحاتهم مواقع معلولية على غرار غازي الخالدي، فاتح المدرس، نصير شورى، ميشيل كرشه، خليل عكاري، ممدوح قشلان، جورج جنورة -ولؤي كيالي. وقد اجتذب كذلك اللباس التقليدي في القلمون هؤلاء الفنانين العرب والأجانب كالمبدع ميخائيل الكريتي 1813 وسيركوسكي وعانقت روائعهم فريسكات عدة كنائس وأديرة منتشرة في تلك البقاع إلى جانب الأيقونات كتلك الموجودة في كنيسة مار تقلا ورسمت أغلبها على جلد الغزال وكانت تلك الحيوانات منتشرة بكثرة في تلك المنطقة القلمونية السورية، هذا بالإضافة إلى أعمال فسيفسائية تعود للعصور البيزنطية تمثل طيور الحجل والصقور والسلاحف المنتشرة بكثرة في تلك البيئة الجبلية، كذلك استهوت أشجار الحور التي تعطر سماء معلولا وضواحيها هؤلاء الفنانين  وكانت تأوي إلى ظلالها مقابر سكان المنطقة بعد خروجهم من المغاور الصخرية.

خالد حياتله، عالم آثار فلسطيني - سوري، كان قبل النزاع في سوريا مرتبطاً بالمديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق. الان مع معهد الآثار الرقمية في أكسفورد، يستكشف ويقود إمكانات التقنيات الجديدة لإصلاح وإعادة بناء المعالم والمواقع الأثرية المدمرة في سورية. حصل على شهادته في علم الآثار من جامعة BYU في الولايات المتحدة الأمريكية ومن جامعة دمشق.

شاهد أيضاً

57 ألف دولار أميركي ثمن دينار واحد يعود للمملكة العربية السورية

بيع دينار المملكة العربية السورية يوم الأحد 19 أيلول 2021 بمبلغ 57 ألف دولار وذلك في مزاد نظمته شركة ستيفن ألبوم الأميركية المتخصصة ببيع العملات النادرة الهندية والإسلامية والصينية وغيرها من العملات الآسيوية.