لم يكن اعتكاف المتصوفين والمتنسكين في العصور السابقة يبحث عن فكرة الخلود بقدر ما كان يبحث بفكرة الإنصاف والتأمل والتفكر، إلا أن مرور السنين جعلت من الأماكن التي اتخذها المتنسكين والمتصوفين ملاذاً هادئاً لهم، مواقع أثرية شغلت علماء الآثار والمهتمين، وقد سجلت منظمة اليونسكو الكثير من المواقع الأثرية الدينية حول العالم على لائحتها، وفي سورية أيضاً دير مار موسى الحبشي، التحفة المعمارية المتوارية بين الجبال والذي سجل على لائحة المواقع الأثرية الوطنية في عام 1957 كما يعتبر وجهة للبحث والتقصي لكل المهتمين بالشأن الآثاري.
دير مار موسى الحبشي
يبعد دير مار موسى الحبشي 90كم عن دمشق باتجاه الشمال، و 16 كم إلى الشرق من مدينة النبك، على طريق العرقوب, داخل ممر جبلي ضيق، يتوضع على كتلة صخرية معزولة من ثلاث جهات، مما يجعله حصناً منيعاً بالطبيعة، ولهذا جعل منه الرومان برجاً لمراقبة الطريق القديمة التي كانت تسلكها القوافل بين دمشق وتدمر، وتحول في القرن السادس للميلاد إلى دير للرهبان، وأصبح مقراً للراهب مار موسى الحبشي الذي كان أميراً حبشياً، فترك بلاط أبيه وبلاده باحثا عن ملكوت الله فهاجر إلى مصر وزار الأماكن المقدسة في فلسطين ثم استقر في دير مار يعقوب بالقرب من بلدة قارة، شمالي النبك، ليعيش حياة الرهبنة.
ورغبة منه في مزيد من الوِحدة والزهد، أتى إلى وادي الدير وأقام في إحدى مغاوره متنسكاً، وفي أثناء النزاعات المذهبية بين مسيحيي ذلك العصر التي تلت المجمع الخلقيدوني، استشهد الراهب الحبيس موسى على يد جنود الإمبراطور. ووصل خبر استشهاده إلى الحبشة، فأتى رسول من طرف أهله ليأخذ جثمانه حتى يواريه الثرى في مسقط رأسه.
شق على أهل المنطقة أن يتخلوا عن رفاة قديسهم، وعندما فتحوا القبر وجدوا إبهام يده اليمنى منفصلاً عن الجثمان، وكانت تلك لهم علامة ربانيَّة، فأحتفظ الرهبان بإبهام يده اليمنى ذخيرة ليتباركوا منها، ولا تزال محفوظة حتى أيامنا هذه في كنيسة النبك السريانية.
ويرى بعض الباحثين أن الدير تأسس باسم النبي موسى الكليم(ع)، وحافظ الرهبان والشعب على سيرة القديس موسى الحبشي الذي استشهد بالمكان في بدايات تاريخ الدير, فارتبطت سيرته بتأسيس الدير, لأن رهبان كل دير يحبون ذكر مؤسس ديرهم وتقديره ولياً وشفيعاً لهم.
كان أسلوب الحياة بالدير في عصره الأول على طريقة “اللاورا” , أي نظام حياة رهبانية تنسكية. حيث يسكن الموحدون في صوامع داخل الجبل, يصل بينها درب صغير يؤدي إلى مكان الكنيسة والمضافة وباقي أماكن الخدمات المشتركة, تماما كما هي الحياة شبه النسكية في لاورات الوديان شرقي القدس. وقد هجرت غالبية الصوامع في عصر لاحق, وأعيد بناء الدير على مساحة أكبر وحول كنيسة أوسع, لأن الحياة الرهبانية تحولت من النمط النسكي إلى الجماعي.
مراحل التصميم المعماري لدير مار موسى
في دراسة أجريت في عام 2007 افترضت أن المرحلة الأولى لبناء الدير كانت في الفترة الرومانية وذلك استناداً إلى وجود منشأتين مشيدتين بواسطة كتل حجرية ضخمة وهما: برج المراقبة الضخم الذي شيد من أجل مراقبة الطريق بين دمشق و تدمر، أما المنشئة الثانية فتقع شمالاً وتمثل الأساس الذي بني الدير فوقه.
ومرحلة البناء الثانية تم تشيد كنيسة الدير وفق نموذج “بازيلكا” الذي شاع في القرن السادس الميلادي، و تتألف الكنيسة من قسمين و هما الصحن الرئيسي الذي يأخذ مسقطه شكل مربع يقارب طول ضلعه 10 أمتار ، والقسم الثاني هو قدس الأقداس ويضم الهيكل و المحراب.
أما المرحلة الثالثة فتعود بالتاريخ إلى منتصف القرن الحادي عشر 1058 و تتلخص بأعمال الترميم التي أجريت نتيجة هزة أرضية و الكثير من الزلازل التي عانت منها المنطقة وذلك بسبب وقوعها في منطقة صدع البحر الميت، وتشهد على هذه المرحلة كتابات منقوشة على جداري الكنيسة الغربي و الشرقي.
الدور الثقافي و الروحي لدير مار موسى
أصبح للدير دور روحي وثقافي مهم في تلك المنطقة المطلة على البادية, والفاصلة بين البدو، الناطقين بالعربية، وسكان الحواضر المتكلمين بالسريانية، كما كان محطة يميل إليها الحجاج الذين يقصدون القدس قادمين من بلاد ما بين النهرين وشمالي سورية.
استمرت الحياة الرهبانية في الدير حتى عام 1831 م، حيث هجر آخر رهبان الدير المكان، وترك الدير فارغاً فحوله الرعاة إلى ملجأً لهم ولمواشيهم … وبالرغم من خلو الدير من سكانه،ظلّ أهالي مدينة النبك يزورونه للتبرك، وأُوكلت شؤونه إلى الرعية المحلية للمحافظة عليه.
رسومات و نقوش توثق مراحل بناء الدير
زينت جدران الكنيسة برسومات جدارية (فريسك)، تمثل تصويراً دقيقاً لبعض قصص الكتاب المقدس، كما تضم مجموعة من الكتابات العربية القديمة والسريانية واليونانية، وهي مؤلفة من ثلاث طبقات: تعود رسوم الطبقة الأولى (وهي الأقدم)، إلى الفترة الواقعة بين سنتي 450 و488 هـ/1058-1095م، حسب الكتابة الموجودة على الجدار الشرقي للرواق الشمالي، وهي من الرسوم النادرة التي تدل على استمرارية الفن الهيليني (اليوناني) المسيحي السوري، كما يظهر من عناصر الحركة والحيوية وقوة التعبير فيها، وما زالت أغلب رسومات هذه الطبقة تحت الطبقات التي تلتها.
أما رسومات الطبقة الثانية فهي تعود إلى نهاية القرن الحادي عشر، وتتميز برهافة الإحساس الروحي والفني للرسام، وتعبر عن تطور الفن البيزنطي في المنطقة.
أما رسوم الطبقة الثالثة فهي تحمل كتابة عربية دُّوِّنت بالكلس وتؤرخ لسنة 1192م, أو 1208م، وتكمن أهميتها في أن رسوماتها متوزعة على جميع جدران الكنيسة، وهي ذات طابع سرياني وهذا ما يتبين من: استخدام الكتابة السريانية فيها، والبساطة والعفوية التي تميزها، وهما صفتان معهودتان في الفن السرياني، وكذلك لتوزع موضوعاتها بالمقارنة مع الأنماط البيزنطية التي بدأت تدخل مرحلة التحديد والثبات في ذلك العصر.
أعمال ترميم دير مار موسى الحبشي
أما أعمال الترميم وتأهيل الموقع فقد بدأت سنة 1984، بمساهمة الدولة السورية (ممثلة بدائرة آثار ريف دمشق)، والحكومة الإيطالية، والكنيسة المحلية وعددٍ من المتطوعين العرب والأوروبيين ومنهم الراهب الإيطالي باولو دالوليو الذي أصدر كتاباً سنة 1998 ضمنه كل المعلومات التاريخية والأثرية المتعلقة بالدير وبأعمال الترميم التي جرت.
والجدير بالذكر أن أعمال ترميم الدير ما زالت ضمن أولويات دائرة الآثار و المتاحف في العاصمة دمشق.